فصل: تفسير الآيات (34- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [33].
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي: بإعادة الروح إلى الجسد، بعد مفارقتها إياه، وإخراجهم من قبورهم كهيئتهم قبل وفاتهم. وفي ابن جرير بحث نحوي في دخول الباء في: {بِقَادِرٍ} بديع. ويذكر في مباحث زيادة الباء، في مطولات العربية.
{بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: من إعادة المعدوم، ولو فني الجسد وغيره.

.تفسير الآيات (34- 35):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [34- 35].
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا} أي: على الإحياء إحياء: {بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ} أي: على تبليغ الرسالة وتكذيبهم وإيذائهم: {كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} أي: أولو الثبات والجد منهم، فإنك منهم. والعزم- في اللغة- كالعزيمة، ما عقدت قلبك عليه من أمر. والعزم أيضاً القوة على الشيء والصبر عليه. فالمراد به هنا المجتهدون، المجدّون، أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم، وقدره وقضاه عليهم. ومطلق الجد، والجهد، والصبر موجود في جميع الرسل، بل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكثير من الأولياء. فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل، وأن من بيانية لا تبعيضية، فكل رسول من أولي العزم، فإن أريد به معنى مخصوص ببعضهم، فلابد من بيانه ليظهر وجه التخصيص. ومنشأ الاختلاف في عددهم إلى أقوال:
أحدها- أنهم جميع الرسل. والثاني- أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى ومحمد. والثالث- أنهم خمسة بزيادة عيسى، كما قيل:
أُوْلِي الْعَزْمِ نُوْحٌ وَالْخَلِيْلُ الْمُمَجَّدُ ** وَمَوْسَىْ وَعِيْسَىْ وَالنَّبِيِّ مُحَمَّدُ

والرابع- أنهم ستة، بزيادة هارون أو داود. والخامس- أنهم سبعة بزيادة آدم. والسادس- أنهم تسعة، بزيادة إسحاق، ويعقوب، ويوسف. وقد يزاد وينقص.
وتوجيه التخصيص أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق، وذبه عن حريم التوحيد، وحمى الشريعة، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية، وأموره الخارجية، كمبارزة كل أهل عصره، كما كان لنوح، أو لملك جبار في عصره، وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية، كنمروذ إبراهيم، وجالوت داود، وفرعون موسى، ولكل موسى فرعون، ولكل محمد أبو جهل. وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة قدسية، ونفس ربانية، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام. ومن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص، وهذا مما كشف بركاتهم سره- أفاده الشهاب-.
{وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي: ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم، فإن ذلك نازل بهم لا محالة، وإن اشتد عليك الأمر من جهتهم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} أي: من عذاب الله، ونكاله، وخزيه الذي ينزل بهم في الدنيا، أو في الآخرة: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً}: {مِّن نَّهَارٍ} أي: لأنه ينسيهم شدة ما ينزل بهم من عذابه، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا، ومبلغ ما فيها مكثوا.
وقوله تعالى: {بَلَاغٌ} قال ابن جرير: فيه وجهان:
أحدهما- أن يكون معناه: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ، بمعنى: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم، ثم حذف: ذلك لبث، وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها.
والآخر- أن يكون معناه: هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية، إن فكروا واعتبروا، فتذكروا. انتهى.
وأشار المهايمي إلى معنى آخر فقال: ليس من حق الرسل الاستعجال، بل حقهم بلاغ.
{فَهَلْ يُهْلَكُ} أي: بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل، والحكمة: {إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الذين خالفوا أمره، وخرجوا من طاعته، نعوذ بالله من غضبه، وأليم عقابه.

.سورة محمد:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [1].
{الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: جحدوا توحيد الله، وعبدوا غيره: {وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي: أعرضوا وامتنعوا عن الإقرار لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة. أو صدوا غيرهم عن ذلك {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: جعلها على غير هدى ورشاد.

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [2].
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم. وقوله: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} أي: بما أنزل الله به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما خصه بالذكر، مع دخوله فيما قبله، تعظيماً لشأنه وتعليماً؛ لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به؛ إذ يفيد بعطفه أنه أعظم أركانه، لإفراده بالذكر. وقد تأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} أي: الثابت بالواقع، ونفس الأمر {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: ستر بإيمانهم وعملهم الصالح، ما كان منهم من الكفر والمعاصي، لرجوعهم عنها وتوبتهم: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: حالهم وشأنهم، وعملهم في الدنيا بالتأييد والتوفيق.
قال الشهاب: البال يكون بمعنى الحال والشأن، وقد يخص بالشأن العظيم، كقوله صلى الله عليه وسلم «كل أمر ذي بال». ويكون بمعنى الخاطر القلبيّ، ويتجوز به عن القلب، ولو فسر به هنا كان حسناً أيضاً. وقد فسره السفاقسي بالفكر؛ لأنه إذا صلح قلبه وفكره، صلحت عقيدته وأعماله. وقال ابن جرير: البال كالمصدر، مثل الشأن، لا يعرف منه فعل، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر، فإذا جمعوه قالوا: بالات.

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [3].
{ذَلِكَ} أي: المذكور من فعله تعالى بالفريقين ما فعله كائن: {بِأَنَّ الَّذِينَ} أي: بسبب أن الذين: {كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي: يشبه لهم الأشباه، فليحق بكل قوم من الأمثال أشكالاً.
قال الزمخشري: فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟
قلت: في أن جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين. أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين. انتهى.

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [4].
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، الصادّين عن منهج الرشاد، وبعثاً على الصدق في قتالهم، كسحاً لعقبة باطلهم، عملاً بما يوجبه الإيمان ويفرضه الإيقان، وتمييزاً لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان، تأثر تلك الطليعة بهذه الجملة. ولذا قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها، فإن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم، مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام، أي: فإذا كان الأمر كما ذكر، فإذا لقيتموهم في المحاربة، فضرب الرقاب. وأصله: فأضربوا الرقاب ضرباً. فحذف الفعل، وقدم المصدر، وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول. وفيه اختصار وتأكيد بليغ. والتعبير به عن القتل، تصوير له بأشنع صورة، وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون منه: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} أي: غلبتموهم، وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم، فصاروا في أيديكم أسرى: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} بفتح الواو، وقرئ بكسرها. وهو ما يوثق به، أي: يربط ويشد، كالقيد والحبل. أي: فأمسكوهم به كيلاً يقتلوكم فيهربوا منكم: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} أي: فإما تمنون بعد ذلك عليهم، فتطلقونهم بغير عوض، لزوال سبعيّتهم، وإما تفدون فداءً، فتطلقونهم بعوض مال، أو مسلم أسروه فيتقوى به المسلمون، أو يتخلص أسيرهم.
قال المهايمي: ولم يذكر القتل اكتفاء بما مر من قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السبعية بالكمال، ولم يذكر الاسترقاق؛ لأنه في معنى استدامة الأسر، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبعية، ولا تزالوا كذلك: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: إلى انقضاء الحرب. والأوزار: كالأحمال وزناً ومعنى، استعير لآلات الحرب التي لا تقوم إلا بها، استعارة تصريحية أو مكنية، بتشبيهها بإنسان يحمل حملاً على رأسه أو ظهره، وأثبت له ذلك تخييلاً، وقد جاء ذكرها في قول الأعشى:
وَأَعْدَدْتَ لِلْحَرْبِ أَوْزَاْرَهَاْ ** رِمَاْحاً طِوَاْلاً وَخَيْلَاً ذُكُوْرًا

وقيل: أوزارها آثامها. يعني: حتى يترك أهل الحرب- وهم المشركون- شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا.
تنبيهات:
الأول- قال في الإكليل: في الآية بيان كيفية الجهاد.
الثاني- للسلف قولان في أن الآية: منسوخة، أو محكمة.
فروي عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، قالوا: فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم.
وروي عن ابن عمر، وعطاء، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، أن الآية محكمة ليست منسوخة، وأنه لا يجوز قتل الأسير، وإنما له المن أو الفداء.
ووجه من ذهب إلى الأول تعارض الآيتين عنده بادئ بدء، فلم يبق إلا القول بإحداهما وهي المطلقة.
ومدرك الثاني أن الأمر بقتلهم المجمل في آيات، محمول على المفصل في مثل هذه الآية، أي: إن القتل عند اللقاء، ثم بعد انقضاء الحرب المن أو الفداء لا غير، إلا أن تبدو مصلحة في القتل، فتلك من باب آخر.
وثم قول ثالث: وهو كون الآية محكمة مع تفويض الأمر إلى الإمام، وأن ذكر المن والفداء لا ينافي جواز القتل، لعلمه من آيات أخر، لاسيما ومرجع الأمر إلى المصلحة. وهذا القول هو الذي أختاره، وإذا دار الأمر في الآي بين الإحكام والنسخ، فالأول هو المرجح. وقد لا يتعارض قول من قال بالنسخ مع الذاهب إلى الإحكام، لما قدمناه في مقدمة التفسير، من تغاير اصطلاح السلف، والأصوليين في النسخ.
ثم رأيت ابن جرير سبقني في ترجيح ذلك، وعبارته:
والصواب من القول عندنا في ذلك، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة. وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ، أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن، والفداء، والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل مذكوراً في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، الآية. بل ذلك كذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيراً في يده من أهل الحرب، فيقتل بعضاً، ويفادي ببعض، ويمن على بعض، مثل يوم بدر: قتل عقبة بن أبي معيط، وقد أتي به أسيراً. وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلماً، وهو على فدائهم والمن عليهم قادر، وفادى بجماعة، أسارى المشركين الذين أسروا ببدر، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي، وهو أسير في يده. ولم يزل ذلك ثابتاً من سيره في أهل الحرب، من لدن أذن الله له بحربهم، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائماً ذلك فيهم. وإنما ذكر جل ثناؤه في هذه الآية المن والفداء في الأسارى، فخص ذكرهما فيها، لأن الأمر بقتلهم والأذن منه بذلك، قد كان تقدم في سائر أي: تنزيله مكرراً، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء، ما له فيهم مع القتل. انتهى كلام ابن جرير.
الثالث- من فوائد الآية أيضاً جواز تخلية سبيل المشركين، إذا ضعفت شوكتهم، وأمنت مفسدتهم، لأن ذلك من لوازم المن، وقبول الفداء، والقول بإبادة خضرائهم من غير تفصيل، ينافيه نص هذه الآية، وقبول النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر وهم مشركون، فتفهّم. وبالجملة، فالذي عول عليه الأئمة المحققون رضي الله عنهم، أن الأمير يخيّر، بعد الظفر تخيير مصلحة لا شهوة في الأسراء المقاتلين، بين قتال واسترقاق، ومنّ وفداء. ويجب عليه اختيار الأصلح للمسلمين؛ لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر، فلم يجز له ترك ما فيه الحظ، كوليّ اليتيم، لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى. فإن منهم من له قوة ونكاية في المسلمين، فقتله أصلح. ومنهم الضعيف ذو المال الكثير، ففداؤه أصلح، ومنهم حسن الرأي في المسلمين، يرجى إسلامه، فالمنّ عليه أولى، ومن ينتفع بخدمته، ويؤمن شرّه، استرقاقه أصلح- كما في شرح الإقناع.
الرابع- تسن دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال لمن بلغته الدعوة، قطعاً لحجته. ويحرم القتال قبلها لمن لم تبلغه الدعوة، لحديث بريدة بن الحصيب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش، أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه، وبمن معه من المسلمين. وقال: «إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فادعهم إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» رواه مسلم.
وقيد الإمام ابن القيم وجوب الدعوة واستحبابها، بما قصدهم المسلمون. أما إذا كان الكفار قاصدين المسلمين بالقتال، فللمسلمين قتالهم من غير دعوة، دفعاً عن نفوسهم، وحريمهم، وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، لأنه أعرف بحال الناس، وبحال العدو، ونكايتهم، وقربهم، وبعده- كما في شرح الإقناع-.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ} خبر لمحذوف. أي: الأمر ذلك. أو مفعول لمقدر: {وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ} أي: لنتقم منهم بعقوبة عاجلة، وكفاكم ذلك كله {وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} أي: ليختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين فيثيبهم، ويبلوهم بكم، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحق {وَالَّذِينَ قُتِلُوا} أي: استشهدوا. وقرئ: {قَاْتِلُوْا} {فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}.